تعد السينما والدراما الكورية من الظواهر الفنية المتفردة في العقود الأخيرة. ففي وقت كانت فيه هوليوود المسيطر الأول على صناعة السينما والدراما العالمية، ظهرت كوريا الجنوبية كقوة فنية جديدة قادرة على جذب مشاهدين من مختلف أنحاء العالم، واثبات نفسها كقاعدة سينمائية مهمة معيدة تعريف معايير الإبداع والجودة.
وفي واقع الأمر، لم يكن هذا الصعود مجرد صدفة. فبالإضافة إلى الاهتمام الملفت للنظر بالتفاصيل الفنية والقصص المميزة، اعتمدت السينما والدراما الكورية على قوة سردية واضحة وأداء متفوق من قبل الممثلين. على سبيل المثال، فاز الفيلم الكوري “طفيلي” (باراسايت) بجائزة الأوسكار لعام 2020، وكان هذا لأول مرة يفوز فيها فيلم غير ناطق بالإنجليزية بجائزة أفضل فيلم. هذا الإنجاز فتح الباب أمام مزيد من الاهتمام بالأعمال الكورية عالميًا.
الإحصائيات تتحدث
التحليل الإحصائي يظهر أن الإقبال على الدراما الكورية يتزايد بشكل كبير. ففي عام 2023، احتل مسلسل “لعبة الحبار” (سكويد قيم ) المركز الأول على منصة “نتفليكس” ليصبح أكثر المسلسلات مشاهدة على الإطلاق، متجاوزًا حاجز 1.65 مليار ساعة مشاهدة خلال أول أربعة أسابيع من إطلاقه. وحقق أيضا الصدارة في موسمه الثاني متفوقا على كل المسلسلات التي تنافسه على منصة نت فيلكس. نجاح هذا العمل لم يكن مجرد نجاحا تجاريا؛ بل كان بمثابة بوابة سحرية تأخذ الجمهور في رحلة غامضة ومشوقة نحو عوالم الراسمالية الكورية المظلمة. من خلال رؤية فنية مختلفة وأفكار مبتكرة التي تحمل في طياتها الكثير من الغموض والجاذبية السينمائية.
وأرجع عدد من المتخصصين أن انتشار الدراما الكورية وسطوع نجمها في السنوات الأخيرة، إلى ما يسمى بـ”الموجة الكورية”، والتي شملت كل روافد الإبداع من تمثيل وغناء واستعراض. وبفضل هذه التجارب الدرامية الناجحة، زاد عدد السائحين في كوريا الجنوبية، كما تزايد إقبال الأجانب على إجراء عمليات التجميل هناك، حيث طرق أبوابها الرجال والنساء أملًا في التشبه بنجوم الدراما الكورية، الذين يمتلكون قدرًا كبيرًا من الحضور والوسامة.
تنوع المواضيع
يتنوع محتوى الدراما في كوريا الجنوبية بين التاريخي والأعمال الرومانسية والمعاصرة التي تتناول العلاقات العائلية. ومن أبرز الأمثلة مسلسل “المؤرخة الصاعدة جوو هاي ريونغ” (Rookie Historian Goo Hae Ryung)، الذي يعد عملاً رومانسيًا كلاسيكيًا تدور أحداثه في الماضي. يحكي المسلسل قصة الشابة ذات الأصول النبيلة جوو هاي ريونغ، التي تحارب حتى يعترف العالم بقدراتها كمؤرخة، ويدخل حياتها الأمير الوسيم يي ريم الذي يكتب الروايات الرومانسية سرًا تحت اسم مستعار. حصل المسلسل على تقييمات عالية وترشيحات عديدة لجائزة “إم بي سي للدراما”، مما يبرز جودته الفنية.
الاستثمار في الثقافة
من الواضح أن هذا النجاح ليس مجرد نجاح مؤقت، بل هو نتيجة استثمار طويل الأمد في الصناعة الإبداعية. الحكومة الكورية قدمت دعمًا كبيرًا لهذه الصناعة من خلال سياسات وتشجيعات تهدف إلى تعزيز الثقافة الكورية عالميًا، والمعروفة باسم “الموجة الكورية” (هاليو). هذا الدعم ساهم في بناء بنية تحتية قوية تشمل مدارس للفنون، واستوديوهات إنتاج متطورة، ومنصات توزيع عالمية. كما ساعدت منصات البث مثل “نتفليكس” و”فيو” في توسيع نطاق انتشار هذه الأعمال.
كذلك أغلب المسلسلات الكورية هي أعمال ذات تصنيف “جي” (G)، تعتبر الدراما الكورية مناسبة للعرض العام على الجميع. فهي خالية تقريبًا من أي لغة بذيئة أو عنف، ونادرًا ما تظهر فيها قبلات، مما يجعلها أسهل في الانتشار وعائلية تمامًا، يمكن للجميع مشاهدتها طوال الوقت ومع أي شخص من دون قلق، بعكس الدراما الأوروبية والأميركية.
التحدي أمام هوليوود
على الرغم من أن السينما والدراما الأمريكية ما زالت تمتلك مكانة قوية لا يسهل على أحد منافساتها، إلا أن المنافسة أصبحت أشد شراسة مع تقدم الصناعة الكورية. الإنتاج الكوري يبرز بفضل قصصه المبتكرة وإتقانه الفني الذي يضاهي أفضل ما تقدمه هوليوود. ولعل النجاح المستمر لهذه الأعمال يشير إلى أن الجمهور العالمي يبحث عن التنوع والجودة والقرب الإنساني، وهي أمور تجيد الصناعة الكورية تقديمها بشكل مبهر. على سبيل المثال، فيلم “قطار إلى بوسان” نجح في إعادة تعريف أفلام الزومبي من خلال تقديم قصة إنسانية مؤثرة بجانب الإثارة.
على الجانب الآخر، سجل الموسم الرابع من مسلسل “أشياء غريبة” (Stranger Things) معدل مشاهدات عالٍ على “نتفليكس”، متجاوزًا 1.32 مليار ساعة مشاهدة في أول 28 يومًا من عرضه. ومع ذلك، لم يتمكن من تجاوز أرقام “لعبة الحبار الجزء2″، الذي لا يزال يحتفظ برقمه القياسي بـ1.65 مليار ساعة مشاهدة، مما يؤكد قوة الدراما الكورية في جذب الجمهور. بأفكارها التي تكون غالبا خارج الصندوق
.
يبدو أن الإبداع الكوري بات يشكل تهديدًا فعليًا لهيمنة هوليوود، ليس فقط من خلال الأرقام والإحصائيات، ولكن أيضًا من خلال التأثير الثقافي المتزايد. وبينما تستمر كوريا الجنوبية في كسر القواعد وتقديم أعمال ملهمة، يبقى السؤال: هل تستطيع هوليوود استعادة الصدارة، أم أن الكلمة الفصل ستكون للإبداع الكوري؟
الإجابة على هذا السؤال ستتضح في السنوات القادمة مع استمرار المنافسة الشرسة بين الصناعتين، ولكن الأكيد أن الجمهور العالمي هو المستفيد الأكبر من هذا التنوع والجودة.